لبنان، هذا البلد الصغير بمساحته، والأصيل بعروبته استقبل مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين بترحاب شعبي ورسمي بعد النبكة في العام 1948 وأكرم وفادتهم رغم قلة موارده وضيق مساحته، وأقام لهم “المخيمات الفلسطينية” التي لم تغلق فصول أزماتها حتى الآن منذ ذلك الوقت، لأن الأمم المتحدة والدول الكبرى والجامعة العربية لم يقوموا بجهد استثنائي من أجل إعادتهم الى بلادهم مع أنهم يملكون “حق العودة” أو السعي لتأمين إعادة انتشارِهم في دول قادرة على أن تؤمن لهم حياة إنسانية واجتماعية كريمة.

وقد باتوا يشكلون عبئا” إضافيا” على الاقتصاد اللبناني المنهك، والخطر الأساسي يتمثل بمحاولة فرض توطينهم، هذا ما يشكل تعديا” على سيادة الدولة اللبنانية وسلامتها ودستورها، وعلى مصير الشعب اللبناني وحقوقه وإرادته الحرة، لأن التوطين يعرّض سلامة لبنان كدولة صغيرة الى مخاطرعدة منها، الخطر الديمغرافي والاقتصادي والسياسي والقانوني.

     لم يختلف الموقف الإنساني الذي اتخذه لبنان بحق اللاجئين الفلسطينيين عن موقفه من النازحين السوريين مع أن أعدادهم الكبيرة كبدت لبنان أعباء كثيرة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي باتت تفوق قدرته على تحملها، خصوصا” أن أرقامهم باتت توازي تقريبا” أرقام اللبنانيين المقيمين الذين يعيشون ظروفا” صعبة اجتماعية واقتصادية وأمنية من دون أي اهتمام من المجتمع الدولي الذي يطبق مبادئ حقوق الإنسان على النازحين السوريين فقط من دون النظر الى أوضاع اللبنانيين الصعبة.

وقد تمثل الاهتمام بسعي الجهات الأممية للضغط على لبنان لكي يوقع “اتفاقية جنيف للاجئين” لأن هذا يعطيها صلاحيات واسعة في التعامل مع النازحين بمعزل عن الحكومة اللبنانية. ويتلقى السوريون المساعدات المتنوعة من المنظمات التابعة للأمم المتحدة والجمعيات بوصفهم يحملون بطاقة “نازح” ويمارسون معها أعمال التجارة والمهن اليدوية الحرة والتهريب كما ذكرنا في مقالات سابقة، وبالإضافة الى التقديمات الصحية والغذائية والمالية يستخدمون شبكة المياه والكهرباء في لبنان بشكل مجاني من دون أي رسوم، فكيف يعطى النازح السوري كل مقومات الصمود في لبنان فيما المواطن اللبناني يدفع الرسوم والضرائب ويئن من الجوع والعوز بسبب أزمته الاقتصادية التي صنفت الأصعب في تاريخ لبنان؟!؟؟

لذلك من الطبيعي أن من يأكل ويشرب ويعالج صحيا” ويتقاضى راتبا” شهريا” بالعملة الصعبة سيرفض العودة الى بلاده متذرعا” بحجج متنوعة، وهذا ما يثير شكوكا” ومخاوف من سعي المجتمع الدولي لتوطينهم في لبنان خصوصا” بعدما اتخذت الحكومة اللبنانية والمؤسسات العسكرية والأمنية اجراءات وتدابير بحق السوريين الذين قاموا بمخالفة القوانين وارتكبوا جرائم وافتعلوا اشكالات واعتداءات والذين لا يملكون وثائق رسمية وقانونية، وقامت بترحيلهم، فاعترضت “منظمة العفو الدولية” على هذا الترحيل، وأصدرت بيانا” دعت فيه إلى الكف فورا” عن ترحيل اللاجئين السوريين قسرا” الى بلادهم، وانتقدت اجراءات الحكومة والجيش، واتهمت المجتمع اللبناني ب”العنصرية” وإساءة معاملة النازحين، في حين أنها غضت النظرعن إجراءات مماثلة قامت بها دول أخرى. وكأنها تستخدم مصطلح “الإنسانية” من أجل تمرير برامج سياسية عدوانية.

     ويبدو أن “المفوضية العليا للنازحين” تشجع النازحين السوريين على البقاء في لبنان من خلال تقديماتها الصحية والغذائية والمالية، غير مكترثة بما يشكلونه من أزمة للبنانيين على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي والأمني، وكأنها  تتبنى مخططا” لتوطينهم.

وقد انتقدت جهات سياسية ودينية ومدنية هذا الأمر منهم البطريرك الراعي الذي حذر من ازدياد أعداد النازحين ووصفه بأنه أزمة وطالب بإيجاد حلول لوجودهم، وكذلك اتهم المفتي الجعفري الدول الأجنبية برعاية مخطط التوطين، وقد قامت أكثر من بلدية بإجراءات تحد من حريتهم ومنعت تجولهم في أوقات محددة في الليل وقامت بترحيل من قاموا بأعمال مخالفة للقانون وارتكبوا جرائم مادية ومعنوية. بالإضافة الى أن سبب وجودهم في لبنان اقتصادي بحت أي للإستفادة من تقديمات المنظمات الدولية، فتحولوا الى “لاجئين اقتصاديين” ولا علاقة لوجودهم بخطر أمني أو سياسي يهددهم لأن معظمهم مؤيد للنظام السوري.

ومما عزز فرضية التوطين أن “المنظمات الدولية” رفضت عودة النازحين متذرعة أن ظروف العودة غير متوفرة بعد، في وقت يئن لبنان من استضافة العدد الأكبر من اللاجئين في العالم قياسا” الى عدد سكانه إلا أن هذه المنظمات لا تكترث لهذا الأمر.
فلا يعنيها إلا تقديم الدعم للنازح السوري وتعزيز صموده في لبنان بدلا من أن تؤمن له عودة آمنة الى بلاده و”ضمانات دولية” تحفظ سلامته أو تؤمن انتقاله الى مخيمات محمية على الحدود بين البلدين، وبدلا من أن تسهم في تنظيم وجوده تقوم بتهديد لبنان باتخاذ اجراءات ضده لأنه يسعى الى تنظيم الوجود السوري وترحيل بعض المخالفين ومرتكبي الجرائم كما ذكرنا، والأمر المستغرب أنها سعت لإعطائهم إقامات مجانية من دون رسوم تعطيهم بعض الامتيازات التي يتمتع بها المواطن اللبناني.

     وسط هذه المخاوف، والفوضى في الوجود السوري، فشلت السلطات اللبنانية فشلا” ذريعا” في التعاطي مع هذا الملف، خصوصا” أن وزارة العمل غير قادرة على ضبط العمالة السورية ووزارة الشؤون الاجتماعية عاجزة عن إدارة المخيمات بطريقة صحيحة ومنضبطة، كما أن وزارة الداخلية لا تمتلك حتى الآن أرقاما” دقيقة لأعداد النازحين، فكثير منهم انتهت إقاماتهم، أو دخلوا بطريقة غير قانونية عبر المعابر غير الشرعية من دون تسوية أوضاعهم فلا يملكون أوراقا” ثبوتية  لذا لجأوا الى المخيمات التي شكلت لهم ملجأ وبؤرا” يحتمون فيها هربا” من رقابة الأجهزة الأمنية، فأغلب هذه المخيمات باتت بؤرا” خطيرة تحمي عصابات السرقة والتهريب ومخازن الأسلحة والممنوعات والولادات غير الشرعية التي لا تسجل في بعض الأحيان. هذا ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول أعداد النازحين السوريين في السنوات المقبلة مقارنة مع أعداد اللبنانيين وتأثير هذا في التغيير الديمغرافي والحضاري والأمني على لبنان في حال تم توطينهم.

انطلاقا” من هذه المخاوف علت أصوات مطالبة بترحيلهم خصوصا” بعد استقرار الوضع الأمني في سوريا، وقابل هذه الأصوات أصوات أخرى رفضت تلك العودة قبل توفير الضمانات الأمنية لهم، فاتخذت مقاربة هذا الملف أبعادا” طائفية وسياسية واتهامات ب”العنصرية” بعيدا” من الموضوعية وتغليب المصلحة العليا للوطن، وسط تخوف من أن يؤدي هذا الانقسام في مقاربة الموضوع الى حصول توترات أمنية شبيهة بما حصل سابقا” في لبنان عندما انقسم اللبنانيون بين مؤيد ومعارض للجوء الفلسطيني فاشتعلت الحرب الأهلية اللبنانية.

     على أي حال، على الأمم المتحدة والدول الكبرى حل هذا الملف وإعادة النازحين الى بلادهم بالاتفاق مع الدولة السورية وتأمين سلامتهم بإبرام “اتفاقيات” معها أو تأمين “عفو عام” لهم ومتابعتهم أمنيا” حتى بعد رجوعهم الى ديارهم، وإقامة مخيمات أو أماكن سكن في مدنهم وقراهم للذين تهدمت بيوتهم ودعمهم ماديا” ومعنويا” وإيقاف تحويلاتهم المادية الى لبنان.

وعلى الحكومة اللبنانية السعي مع الدولة السورية والدول العربية والغربية وكل المنظمات المعنية بموضوع النزوح لتأمين عودتهم  فورا”، خصوصا” بعد عودة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا الى طبيعتها، إذ يجب عليها إحصاء أعدادهم وقوننة وجودهم وإجبارهم على دفع الضرائب والرسوم، وضبط الحدود، ومراقبة المخيمات وتفتيشها دائما”، واسقاط صفة “النازح” عن كل من يغادر الأراضي اللبنانية ثم يعود من أجل الحصول على المساعدات الشهرية، إذ يعد هذا الأمر “غير شرعي” وبناء عليه يرحل المغادر مباشرة الى سوريا بشكل نهائي، وعلى النازحين الإلتزام بالمعايير والقيم، واحترام قوانين البلد المضيف وعاداته وتقاليده، والتعاون مع البلديات والأجهزة الأمنية لأن هذا التعاون في صالح الجميع.

     إذان المسألة ليست “شعارات شعبوية” أو”خطابات عنصرية” كما يدعي بعضهم، إنما مسألة وجود خطر حقيقي على لبنان وهويته ومجتمعه وديمغرافيته واقتصاده وأمنه تتطلب معالجة جدية وفاعلة، لذا على الدولة اللبنانية الضغط باتجاه إعادتهم الى بلادهم لكي لا تتكرر أزمة اللاجئين الفلسطينيين، ولكي لا نكون أمام احتلال جديد تحت عنوان “النزوح”. فهل سينجح لبنان الذي تخلص سابقا” من الوصاية والاحتلال بالبقاء سيدا” حرا” مستقلا” أم أن التسويات السياسية والتاريخية والاقليمية ستدفعه الى مزيد من الانهيار لكي يضطر الى القبول بتوطين النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين علما” أن الدستور اللبناني يمنع التوطين ؟؟!!

مشاركة.

التعليقات مغلقة.