نشر الدكتور فايز عراجي الخبير في التنمية والغذاء مقالاً مهماً في “الأخبار” بتاريخ 20-12-2022 عن الأنظمة الغذائية المسيطرة على العالم، نعيد نشره لما له من أهمية في هذا الوقت الراهن الذي يشهد أزمات عالمية خطرة.

في كتابه “العالم مسطّح” يؤكد الكاتب الأميركي توماس فريدمان(Friedman,2005)  أنه مع انهيار جدار برلين في التاسع من تشرين الثاني 1989، حصلت تغييرات جذرية خاصةً بما يتعلّق بالنظام الاقتصادي العالمي وأصبح العالم أكثر تسطيحاً. يعترف الصحفي الأميركي الصهيوني الليبرالي في كتابه هذا أن انهيار المنظومة الاشتراكية ساعد على سيطرة غربية وخصوصاً أميركية كاملة على النظام العالمي. وقد حدّد فريدمان ثلاثة مراحل من العولمة. بدأت بعولمة الدول والحكومات، ثم عولمة الشركات كمرحلة ثانية، وعولمة الفرد عبر الحاسوب الشخصي والانترنيت.

وفي كتاب سابق لفريدمان أيضاً “اللكزس وشجرة الزيتون” (1999)، يؤكد الكاتب أن ظاهرة العولمة لن تكون موضة بل هو مفهوم جديد يستبدل الحرب الباردة. يسوّق فريدمان للمرحلة المقبلة التي ستكون صراع بين العولمة بما تضمّ من رأسمال وتكنولوجيا وداتا المعلومات وأعطى رمزاً لها سيارة اللكزس التي كانت أكثر السيارات تطوّراً في حينه، وبين شجرة الزيتون التي ترمز، وأيضاً حسب قول فريدمان، الى القوى القديمة (وهي ضمناً المتخلفة بالنسبة لفريدمان) للثقافة والجغرافية والتقاليد والمجتمعات.

من الرأسمالية الى الليبرالية الى الاقطاع التقني

بالمقابل، يشرح البروفسور يانيس فاروفاكيس (Varoufakis, 2021)، وهو أستاذ اقتصاد ووزير مالية سابق ونائب حالي يوناني، تحوّل النظام الاقتصادي العالمي الحالي من نظام رأسمالي بعد أن كان نظام اقطاعي حتى القرون الوسطى، الى نظام اقطاعي- تقني (Techno-Feudalism). وفي مقابلة معه يفصّل فاروفاكيس(Varoufakis, 2022) كيف استُبدلت الأسواق الحقيقية وتحوّلت الى منصات أو أسواق افتراضية. “وبعد أن كان النظام الرأسمالي القديم يدفع ثمن قيمة الانتاج، حتى ولو كان الثمن غير عادل، بات النظام الحالي (الاقطاع التقني) يستفيد من كل الطبقات الاجتماعية دون دفع أي بدل” بما يذّكر بنظام الاستعباد. فمثلاً “عند كتابة أي مراجعة (Review) على أمازون أو فيسبوك، أو عند تحديد موقعك وماذا تفعل على غوغل (Google Maps)، فأنت تزيد رأسمال الى الرأسماليين مباشرةً ودون أي بدل”.

أياً يكن النظام الذي يعيش العالم في ظلّه حالياً، فمن المؤكد أن هذا النموذج المسيطر على غالبية مفاصل حياتنا، بات يشكّل تهديداً كبيراً للبشرية. من الناحية الفكرية، تُشير الرابطة الفرنسية للاقتصاد السياسي AFES  أن عدد أساتذة الاقتصاد الغير تقليديين (Heterodox) – ينتمون  الى مدارس اقتصادية تنتقد الرأسمالية أو يؤمنون بالرأسمالية المنضبطة – الذين نجحوا في الدخول الى الجامعات الفرنسية كان يشكّل 18% من حجم التوظيف بين عامي 2000 – 2004. وقد انخفض العدد بشكل ملحوظ حتى وصل الى 5% فقط (6 أساتذة من أصل 120) بين عامي 2005 – 2011 حيث بات يسيطر على اللجان الفاحصة أساتذة من خلفيات اقتصادية رأسمالية صرف (Raim, 2016).

من الناحية الاعلامية، يُشير Swiss Propaganda Research (2019) في دراسة تحت عنوان “المضاعف الدعائي” أن “معظم التغطية الاخبارية الدولية في وسائل الاعلام الغربية يتمّ توفيرها من قبل ثلاث وكالات أنباء عالمية فقط مقرها في نيويورك (AP) ولندن (Reuters) وباريس (AFP)”. كما تفصّل الدراسة الدور الرئيسي الذي تلعبه هذه الوكالات حيث أن “وسائل الاعلام الغربية غالباً ما تقدّم تقارير حول نفس الموضوعات، حتى باستخدام نفس الصياغة. بالاضافة الى ذلك، تستخدم الحكومات والأجهزة العسكرية والاستخباراتية وكالات الأنباء العالمية هذه كمضاعفات لنشر رسائلها في جميع أنحاء العالم”.

وتعطي الدراسة مثلاً أن “تغطية الحرب في سوريا من قبل تسع صحف أوروبية رائدة، 78% من جميع مقالاتها كانت مبنية كليّاً أو جزئياً على تقارير الوكالات و صفر بالمئة على الأبحاث الاستقصائية. علاوةً على ذلك، فان 82% من جميع المقالات والمقابلات أيّدت تدخل الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي”.

من الناحية التربوية، يورد البروفسور جيفري ساكس (Sachs, 2015)، مدير سابق لمعهد الأرض في جامعة كولومبيا وأستاذ الاقتصاد فيها وأيضاً مستشار سابق لأمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، في كتابه “عصر التنمية المستدامة” أنه في العام 2013، تسعون في المئة (90%) من التلامذة في الولايات المتحدة الأميركية يكملون دراستهم حتى المرحلة الثانوية بينما لا يتجاوز عدد المنتسبين الى الجامعات 30%، أي أن هناك تسرّب جامعي بأكثر من 60%. والسبب في ذلك حسب ساكس هو ارتفاع كلفة التعليم الجامعي الذي يقتصر على أبناء العائلات الميسورة فقط أو من حالفه الحظ من العائلات الفقيرة واستحصل على قرض تعليم جامعي.

قدّر ساكس أن أبناء الأسر الفقيرة الذين يتابعون دراستهم الجامعية مدينون بأكثر من 1000 مليار دولار أميركي للبنوك الأميركية عام 2013 بينما كان المبلغ المدين حوالي 250 مليار دولار أميركي فقط في العام 2003. “هذا التمييز لم يكن فقط بين الأسر الميسورة والأسر الفقيرة، بل كان ظاهراً أيضاً بين السلالات والعروق. ففي العام 2012 في الولايات المتحدة الأميركية، وصلت نسبة البيض غير اللاتين (White non-Hispanic) الذين يحملون شهادة جامعية الى 35% من عددهم، بينما انخفضت النسبة الى 21% بين الأميركيين الأفارقة (Afro-American) والى 14.5% فقط بين الأميركيين اللاتين (Hispanics)”. ويخلص ساكس في كتابه الى” الارتباط الوثيق بين التعليم العالي والتقدم التكنولوجي والدور الأساسي الذي يلعبه هذا الأخير في النمو الاقتصادي”.

من الناحية الصحية، يستند البروفسور جفري ساكس في كتابه “عصر التنمية المستدامة” الى أرقام نشرها البنك الدولي في تقريره “مؤشرات التنمية العالمية” (2014) ليثبت ارتباط مأمول الحياة عند الولادة بالناتج الكلي المحلي للفرد (GDP per capita): كلما ارتفعت حصة الفرد من الناتج الكلي المحلي ارتفع معها معدّل العمر المتوقّع.

في تقريره “تقرير أبحاث السوق”، يقدّر موقع ثروة (Fortune, 2022) حجم السوق العالمي للأدوية ب 1585 مليار دولار أميركي عام 2022 بعد أن كان حوالي 1494 مليار عام 2021، ومن المتوقع أن يصل حجم هذا السوق الى 2400 مليار دولار عام 2029. توثّق الصحفية كاثارينا بوشهولز (Buchholz, 2021) وهي صحفية متخصصة بالبيانات، تضخّم أرباح بعض شركات الأدوية العالمية خلال جائحة كورونا. فقد زاد صافي الدخل لشركة جونسن أند جونسن 24%، وشركة موديرنا 7.5%، وشركة بيونتيك 8.5%، بينما زاد دخل شركة فايزر 124%. وفي مقال آخر نشره موقع Relief Web لمنظمة أوكسفام (Oxfam, 2021)، تؤكد المنظمة الدولية أن كل من شركة فايزر، بيونتك، وموديرنا تحقق مجتمعة أرباح صافية تقدّر بألف دولار أميركي في الثانية الواحدة على أثر جائحة كورونا. يتساءل البروفسور جفري ساكس عن أسباب ارتفاع كلفة النظام الصحي في الولايات المتحدة الأميركية (Sachs, 2015). وهو يؤكد أن السبب لا يعود بتاتاً الى أن مخرجات النظام الصحي الأميركي أفضل، أو أن خدماته متعددة بالنسبة لباقي أنظمة الصحة في الدول الأخرى، “هناك بُعد وحيد لهذه القضية: الاقتصاد السياسي”.

فالقطاع الصحي الأميركي قوي سياسياً وهو قادر على مقاومة أي تنظيم أو استبدال من قبل القطاع العام. “قطاع صناعة الرعاية الصحية هو واحد من أقوى أربع جماعات الضغط (Lobbies) في الولايات المتحدة الأميركية” حسب ساكس. أما النفقات العالمية على القطاع الصحي فهي في ازدياد مضطرد. قدّر ماثيو شنيدر (Schneider et al., 2021) أن النفقات العالمية على القطاع الصحي تضاعفت خلال العقدين المنصرمين من 4100 مليار دولار أميركي عام 2000 الى حوالي 8200 مليار دولار أميركي في العام 2017. هذا يُظهر أن القطاع الصحي في العالم أصبح قطاعاً صناعياً أكثر منه قطاعاً للرعاية الصحيّة، تسيطر عليه شركات صناعة الأدوية والمعدّات الطبية، شركات التأمين الصحي وشركات الرعاية الصحية. يوضح جدول “الناتج الكلي المحلي، النفقات الوطنية الصحية، بالنسبة للفرد، ونسبة توزيعها، والمتوسط السنوي لنسبة التغيير في الولايات المتحدة الأميركية للسنوات من 1960 حتى 2019” الصادر عن مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC, 2021) أنه مع نهاية ثمانينات القرن الماضي زاد الانفاق على القطاع الصحي بالنسبة للفرد بشكل جنوني وغير مبرر حتى وصل الى 2833 دولار أميركي سنوياً بعد أن كان 146 دولاراً عام 1960.

وقد استمرّ هذا الانفاق بالارتفاع حتى وصل الى 11582 دولار أميركي عام 2019 منها حوالي 27% ثمن أدوية ومعدّات طبيّة (ما مجموعه 1019 مليار دولار أميركي سنوياً). هذا يؤشر الى انتقال القطاع الصحي الى صناعة صحيّة مع نهاية الثمانينات. وهل هي مصادفة أن يحدث ذلك مع بداية المرحلة التي أصبح فيها العالم يعيش تحت أحادية قطبية فرضت النظام الذي ما زلنا نعيش فيه؟ يبقى أن نشير الى أنه خلال نفس الحقبة (نهاية الثمانينات)، بدأت الولايات المتحدة الأميركية بفرض تشديد القوانين بما يتعلّق بحقوق الملكية الفكرية وتسجيل براءات الاختراع على دول العالم، وهو نوع من أنواع الاحتكار والحصرية.

وقد أورد شيرر (Scherer, 1993) في مقال له تحت عنوان “التسعير والأرباح والتقدم التكنولوجي في الصناعات الدوائية”، أن الولايات المتحدة الأميركية وجّهت تحذيرات الى عدد من الدول بوضعها تحت برنامج العقوبات الذي أقرّه مجلس الشيوخ عام 1988 في حال لم تقم بتشديد قوانينها بما يتعلّق بحقوق الملكية الفكرية. وقد استجابت بعض الدول على سبيل المثال كوريا الجنوبية والمكسيك واندونيسيا وجمهورية الصين الشعبية وتايوان والهند وتايلند، بينما رفضت أخرى مثل البرازيل التي طُبقت عليها العقوبات عام 1989. يبقى أن نذّكر أن القطاع الصحّي في النظام الذي نعيش فيه حالياً يموّل بشكل كبير من الأموال الخاصة. في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً متوسط الانفاق على القطاع الصحي من الأموال الخاصة هو حوالي 60%، وقد وصل الى أدنى مستوياته أواخر الثمانينات حيث بلغ 57% حسب احصاءات مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC, 2021).

بقي أن نورد أخيراً تأثيرات النظام العالمي الحالي على الناحية الغذائية وبذلك نكون قد تطرقنا الى النواحي الأساسية لحياتنا اليومية من تعليم وطبابة وغذاء.    

السيطرة على النظام الغذائي العالمي

لقد مرّت السيطرة على النظام الغذائي العالمي بعدّة مراحل. حتى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أخذ تدفق الغذاء غالباً اتجاه جنوب – شمال. حسب الدكتور ايريك هولت-غيمينيز (Holt-Gimenez, 2010)، كانت دول الجنوب تُطعم دول الشمال وتصدّر لها الحبوب خاصةً بأسعار تنافسية. دفع هذا المسار الى الاحجام عن الزراعة في بريطانيا. ثار الاقطاع الانكليزي ودفع باتجاه اقرار “قانون الذرة” عام 1815، وهو قانون يفرض الضرائب على استيراد الحبوب لحماية الزراعة المحلية.

استمرّ العمل بقانون الذرة حتى العام 1846 حين تمّ الغاؤه بسبب الارتفاع الباهظ لرغيف الخبز الذي تسبب به (Wikipedia, 2022). عاد بعد ذلك التدفق مجدداً من الجنوب نحو الشمال. “امتدّ أول نظام غذائي حتى فترة الكساد الكبير (1930) وقد ربط الواردات الغذائية من الجنوب والمستعمرات الأميركية باتجاه التوسع الصناعي الأوروبي” (Holt-Gimenez, 2010). حسب ماك مايكل (McMichael, 2009)، “دمج النظام الغذائي الأول بين الواردات الاستوائية الكولونيالية نحو أوروبا وبين الواردات من الحبوب الأساسية و الحيوانات من المستوطنين في المستعمرات”. كما دفع النظام الغذائي الأول باتجاه فرض الزراعات الأحادية في المستعمرات المحتلة فاستعانت بريطانيا مثلاً بالمستوطنين في المستعمرات المحتلة لتأمين حاجاتها الأساسية من الغذاء.

أورد ايكارت ورتز (Woertz, 2014) في مقاله “تاريخ النظم الغذائية والشرق الأوسط” أنه “بعد الكساد الكبير ظهر النظام الغذائي الثاني بعد الحرب العالمية الثانية. كانت الزراعة المدعومة في البلدان الصناعية والتخلّص من الفائض باتجاه العالم النامي في صميمه”. عكس “النظام الغذائي الثاني تدفق الطعام من الشمال الى الجنوب لتغذية صناعة الحرب الباردة في العالم الثالث”و”سيطر اصلاحيو الرأسمالية (Reformists) على نظام الغذاء العالمي من مرحلة الكساد الكبير في الثلاثينات الى حين بشّر رونالد ريغان ومارغريت تاتشر بالعولمة النيوليبرالية في الثمانينات والتي تميّزت بتحرير الأسواق، والخصخصة، ونمو واحتكار الشركات أحادية القوة لنظم الغذاء حول العالم”(Holt-Gimenez, 2010).

لقد قام النظام الغذائي الثاني على أساس برامج دعم الزراعة وتشجيع التصنيع الغذائي وقوانين حماية الانتاج خلف الرسوم بطريقة لا يمكن اختراقه الا من خلال البرامج العامة للمساعدات أو المنح الغذائية. لقد نجح هذا النظام ” بتداول المنتجات الزراعية تحت مسمى منح وليس سلع، تُنقل عبر آلية “مدفوعات مقابلة” من الدول المتلقية في البنوك المحلية تُستعمل وفقاً لتقديرات المستشارين الأميركيين المحليين (Friedman, 2005). نجحت هارييت فريدمان في تحديد التناقضات في “الرأسمالية الخضراء” التي حابت وبطريقة انتقائية طلبات التيارات البيئية والتجارة العادلة وصحة المستهلك ورعاية الحيوان. أطلقت فريدمان على النظام الغذائي ما بعد الحرب العالمية الثانية، تسمية نمط الغذاء الصناعي-التجاري” للتأكيد على أسس التصنيع الغذائي وحماية الدولة. تضمنت هذه الحماية دعم الصادرات الزراعية كميزة أدّت الى تحوّل الولايات المتحدة الأميركية الى “المصدّر المهيمن”، والمستعمرات ودول العالم الثالث الى مستوردة للغذاء بعد أن كانت مكتفية غذائياً، وأوروبا الى منطقة مكتفية ذاتياً ومنطقة تصدير رئيسية”(Friedman, 2005).

مع بداية الستينيات من القرن الماضي، دخل النظام الغذائي العالمي مرحلة “خصخصة الزراعة التي أعطت الأولوية للأرباح الزراعية للشركات الكبرى على الناس والكوكب” (Walton, 2022). أبرز مثال على ذلك هو ما يسمى “الثورة الخضراء” حيث تعاونت الهند مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ومؤسسة فورد فاعتمدت زراعتها على الكيماويات الزراعية والتربية المكثّفة للنباتات. “هذا التحوّل نحو الزراعة الكبيرة والزراعة الأحادية الأكثر ربحية، جعل صغار المزارعين أكثر اعتماداً على الأسمدة الكيماوية باهظة الثمن، مما أجبرهم على الدخول في مستويات متزايدة من الديون” (Walton, 2022).

وقد دفع برنامج التكيف الهيكلي (Structural Adjustment Program – SAP) الذي فرضه البنك الدولي على دول الجنوب المثقلة بالديون، باتجاه تسليع الغذاء والمحاصيل الزراعية النقدية للتصدير (Cash Crops) وبالتالي اهمال المحاصيل الأصلية التي يعتمد عليها السكان المحليون في غذائهم فأصبحوا أكثر عرضة لندرة الغذاء. حسب أدال والتون (2022Walton, ) تحوّلت كينيا مثلاً الى دولة مصدّرة للأغذية (شاي، قهوة، خضراوات وأزهار الزينة) بينما يعاني 29% من أطفالها في المناطق الريفية و20% منهم في المدن من التقزّم (Stunting) بسبب سوء التغذية.

بما يتعلّق بفائض الانتاج، تشير جينيفر ايديس (Eddis, 2014) أن المساعدات الغذائية كانت الطريقة المناسبة للبلدان المانحة للتخلص من فائض انتاجها الزراعي ولاحقاً تكريس التبعية الغذائية لها. وأعطت مثالاً للتأكيد على ذلك فأوردت بيان للسياسي الأميركي هوبير هامفري عام 1957 صرّح فيه، في مجرى تأكيده على أهمية المساعدات الغذائية الأميركية واصفاً اياها بالأخبار الجيّدة، “اذا كنت تبحث عن طريقة لجعل الناس يعتمدون عليك وتابعين لك، من خلال تعاونهم معك، يبدو لي أن الاعتماد على الغذاء سيكون رائعاً”وأبرز مثال على ذلك هو ما عُرف “بأزمة التورتيا” في المكسيك. بعد ارتفاع أسعار الذرة بشكل جنوني مع بدء استعماله كوقود زراعي، اضطرت المكسيك أن تعتمد على برنامج التكيف الهيكلي (SAP) لتأمين احتياجاتها من الذرة من الولايات المتحدة الأميركية على شكل مساعدات غذائية. “خلال عقود قليلة، باتت المكسيك تعتمد الى درجة كبيرة على الولايات المتحدة الأميركية لتأمين احتياجاتها من الذرة. وقد أدى ذلك الى تآكل الزراعة الفلاحية والى أن تصبح المكسيك مستورد صافي للغذاء فأصبحت دولة في حالة انعدام تام للأمن الغذائي، وتتالي الأزمات الاقتصادية، فانعدام الاستقرار السياسي، وعدم قدرتها على ضبط الأنشطة الاجرامية”.

سياتل 1999 

المرحلة الحالية هي مرحلة ما بعد تأسيس منظمة التجارة العالمية (WTO). تأسست هذه المنظمة رسمياً في الأول من كانون الثاني 1995 بعد جولة محادثات الأوروغواي التي امتدت من 1986 حتى 1994 (توقفت في 1990 بعد فشل المفاوضات في الوصول الى الى اتفاق لتقليل دعم المزارع في الدول الكبرى) وخلال جولة مراكش. وقد أُنشأت المنظمة على انقاض اتفاق الجات GATT (الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة) الذي وُقُع عليه سنة 1948 (Wikipedia, 2022). يشير الكاتب جون مادلي (Madeley, 2002) في كتابه “تجارة الجوع” أنه بعد العام 1990 تمكنت الولايات المتحدة الأميركية وبالاتفاق مع الاتحاد الأوروبي من فرض القوانين المناسبة لكلا الجهيتين دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول النامية.

وللمفارقة أن العام 1990 هو العام الذي تلا انهيار جدار برلين وسيطرة الأحادية القطبية على العالم. “في العام 1996 ارتفع ثمن سعر الحبوب 40% بالنسبة للسنة الفائتة. وبالرغم من أن جولة المفاوضات في مراكش قد أقرت منح الدعم الدولي للدول النامية والدول المستوردة بالكامل لموادها الغذائية، الا أن لجنة الزراعة في منظمة التجارة العالمية، وبناء على مشورة صندوق النقد الدولي، رفضت تطبيق قرار الدعم متحججةً أن القرار لم يوضع موضع التنفيذ وأن ارتفاع سعر الحبوب غير مرتبط باتفاق جولة الأوروغواي. في العام 1998 وبالرغم من هبوط سعر الحبوب عالمياً الا أن الدول النامية والدول المستوردة بالكامل لموادها الغذائية استمرّت في دفع فاتورة أعلى بـ 20% من المعتاد في السنين الماضية”(Madeley, 2002).

مع اقتراب الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في سياتل (الولايات المتحدة الأميركية) عام 1999، وقّعت أكثر من 1200 جمعية بيئية ونقابات عمّال ومنظمات تنموية من 100 بلد من دول العالم الثالث عريضة احتجّت فيها على نظام التجارة الدولي ووصفته بانه “نظام غير عادل، ينقصه الكثير من الشفافية ويدخل في نزاعات مع الأنظمة المحلية والدولية التي تؤكد على احترام معايير البيئة والتنمية”. دفع اجتماع سياتل باتجاه أكبر عملية اعتراض دولية شارك فيها أكثر من 50 ألف شخص من مختلف دول العالم عطّلوا افتتاحية الاجتماع الدولي ونشط ممثلو هذه الجمعيات والنقابات للدفاع عن قضيتهم داخل الاجتماعات وشرح خطورة “تحرير التجارة التي تدفع ملايين السكان في الدول النامية الى ترك أراضيهم، والى تعريض الأمن الغذائي للخطر”(Madeley, 2002). بدأت ملامح النظام الغذائي الثالث تتظّهر مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن العشرين. عمّق هذا النظام عملية التصنيع الغذائي التجاري وعولمها عبر ربط الشركات المحلية بالشركات عبر القارية. “دمج النظام الجديد مناطق جديدة في سلاسل البروتين الحيواني مثل الصين والبرازيل، وعزّز سلاسل التوريد المتباينة مثل ثورة السوبرماركت للمستهلكين المتميزين للفواكه والخضار الطازجة والأسماك، وولّد كتلة بشرية من النازحين نحو الأحياء الفقيرة بعد مغادرة صغار المزارعين أراضيهم” (McMichael, 2009).

…..يتبع: نتائج السيطرة على النظام الغذائي العالمي والبدائل العالمية والمحلية

عن “الأخبار”.

المراجع:

Friedman, T. L., 2005. The world is flat. A brief history of the twenty-first history. Farrar, Straus and Giroux. New York. 488 pages.

Friedman, T.L., 2000. The Lexus and the olive tree. Understanding globalization. Anchor Books. New York.490 pages.

Varoufakis Y., 2021. Techno-feudalism is taking over. Project Syndicate.

Retrieved from:

Varoufakis Y., 2022. Yanis Varoufakis: We are living in a post-capitalist, techno-feudalist dystopia. The Real News Network.

Retrieved from:

Raim L., 2016. Discrètes Manoeuvres Contre l’(Eco)Diversité. Manuel d’Economie critique. Le Monde Diplomatique. 24:25.

Swiss Propaganda Research, 2019. The propaganda multiplier: how global news agencies and western media report on geopolitics. Swiss Policy Research.

Retrieved from: https://swprs.org/the-propaganda-multiplier/ 

Sachs J. D., 2015. The age of sustainable development. Colombia University Press. New York. 543 pages.

Fortune – Business Insights, 2022. Impact of covid-19 on pharmaceuticals market. Market Research Report. 215 pages.

Retrieved from:

Buchholz K., 2021. How covid-19 vaccines changed pharma company profits. Statista.

Retrieved from:

Oxfam, 2021. Pfizer, BioNTech and Moderna making $1000 profit every second while world’s poorest countries remain largely unvaccinated. Relief Web.

Retrieved from:

Schneider M. T., Chang A. Y., Chapin A., Chen C. S., Crosby S. W., Harle A. C., Tsakalos G., Zlavog B. S., Dieleman J., 2021. Health expenditures by services and providers for 195 countries 2000 – 2017. BMJ Global Health. Vol 6:7.

Retrieved from: https://gh.bmj.com/content/6/7/e005799 

CDC, 2021. Table HExpGDP. Gross domestic product, national health expenditures, per capita amounts, percent distribution, and average annual percent change: United States, selected years 1960–2019.

Retrieved from: https://www.cdc.gov/nchs/fastats/health-expenditures.htm

Scherer F. M., 1993. Pricing, profits, and technological progress in the pharmaceutical industry. J. of Economic perspectives. Vol 7:3. 97:115.

Holt-Gimenez E., 2010. Food security, food justice or food sovereignty? Food first. Institute for Food and Development Policy. Vol 16:4. 4 pages.

Wikipedia, 2022. Corn law. Retrieved from: https://en.wikipedia.org/wiki/Corn_Laws

McMichael P., 2009. A food regime genealogy. The Journal of Peasant Studies. Vol 36:1. 139 – 169.

Woertz E., 2014. Historic food regimes and the Middle East. Food security in the Middle East. Chapter 2. Oxford Academic. 19:38.

Retrieved from:

Friedman H., 2005. From colonialism to green capitalism: social movements and the emergence of food regimes. In: F.H. Buttel and P. McMicheal eds. New directions in the sociology of global development. Research in rural sociology and development. Vol 11. Oxford: Elsevier. Pp 229-67.

Walton A., 2022. Capitalism is causing the food crisis, not war. Progressive International. Retrieved from:

Eddis J., 2014. Critical reflections: contrasting food sovereignty with food security. Food We Want Project. London. 9 pages.

Wikipedia, 2022. World Trade Organization.

Retrieved from: https://en.wikipedia.org/wiki/World_Trade_Organization 

Madeley J., 2002. Le commerce de la faim: la sécurité alimentaire sacrifiée à l’autel du libre échange.Enjeux Planète. 259 pages.

مشاركة.

التعليقات مغلقة.