تشهد محافظة البقاع منذ بداية الأزمة الاقتصادية ووصول النازحين السوريين تحولاً مرعباً لم تعرفه منذ إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920 إذ كانت تحتل جزءاً مهماً من الخارطة السياحية اللبنانية بسبب عاداتها وتقاليدها ومواقعها الأثرية وطبيعتها الجميلة.

هذا التحول الاقتصادي والاجتماعي الذي غيّر صورتها وشوّه حضارتها وديموغرافيتها التي عرفت بها، أدى الى ظهور عصابات تهريب وجرائم منظمة، أسهم في تفشيه اللاجئون السوريون ووجودهم غير المنظم، فظهور عصابات التهريب والخطف والسرقة زاد بشكل كبير مستفيداً من انهيار الدولة وأجهزتها وانعدام دورها خصوصاً على الحدود بين سوريا ولبنان حيث وسّع المهربون نشاطهم، حتى بات يشمل المحروقات والماشية والخضراوات والخبز والسجائر وكل ما هو مدعوم من مصرف لبنان منذ سنوات وصولاً إلى الحجر والبشر.

هذه الاستباحة للحدود بفعل الحرب السورية وتحلل أجهزة الدولة في البلدين، ساهم في تفاقم الأوضاع في البقاع وانهيار الأمن الاجتماعي والحياتي فيه، اذ حلّت اليد العاملة السورية مكان اليد العاملة اللبنانية في القطاعات الخاصة والمهن لأنها ليست بحاجة الى نفقات مثل إجازة عمل أو غيرها بسبب وجود معاهدات موقعة بهذا الشأن بين لبنان وسوريا، لذا استفاد النازح السوري من تفلت الوضع لكي يعمل في القطاعات المختلفة، فظهرت بسطات الفواكه والخضار على جوانب الطرقات بشكل عشوائي خصوصاً على الطريق الدولية التي توسم بها اللبنانيون خيراً لأنها الطريق التي تربط لبنان بالعالم العربي، غير آبه إن عطلت هذه البسطات حركة السير على الأوتوستراد أوعرضت سلامة المارة للخطر في ظل غياب تام لأجهزة الدولة والبلديات.

وعلى الرغم من انتشار خيم النازحين السوريين على جانبي الأوتوستراد بشكل كبير الا أن عصابات الخطف والسرقة تسرح وتمرح مما يدفع إلى التساؤل عن مدى تحمل النازح السوري مسؤولية هذا الأمر. فهذه الخيم تعطي فكرة عن حجم النزوح السوري الذي يستنزف قدرات الدولة اللبنانية التي باتت تستورد أكثر من حاجة سكانها بمرتين وأكثر خصوصا في القمح والمحروقات وغيرها. فعلى أي أساس يطلب المسؤولون من السائح المجيء إلى لبنان وهو غير محمي أو معرض للخطر على أكثر من صعيد؟! وقد يعترض البعض فيقول إن البقاع كان يشهد سابقاً حالات من التفلت الأمني وانتشار عمليات السرقة والخطف ولكن الجواب على هؤلاء أن هذه الحالات لم تكن منتشرة بالقدر الذي هو عليه الأن.

يكفي أن يصل السائح الى ديرزنون ليشعر أنه في عالم آخر تسيطر عليه اليد العاملة السورية ، هنا بسطات خضار للنازحين السوريين، وهناك محال القصابين الذين ينادون على اللحمة من دون أن يُعرف مصدرها، ومن دون اعتماد أدنى معايير سلامة الغذاء ، هذا وقد سجل البقاع عدة حالات تسمم وحالات كوليرا في ظل غياب الرقابة .

أما المتسولون فحدث بلا حرج لأنهم ينتشرون بشكل كبير ويتسلطون على السيارات من أجل استجداء المال، في حين ينشط بائعو الحطب على جانبي الطريق رافعين لافتات “حطب للبيع” من دون معرفة مصدره، مما يشي بكارثة بيئية تحل بالطبيعة، فمن أين تقطع الأشجار؟! ومن يقطعها ؟ هذه الجريمة ترتكب بحق أشجار الأحراج والبساتين من أجل بيعها في ظل غياب وزارة البيئة والبلديات ووزارة الزراعة.

وإذا أكمل السائح طريقه فسيجد بسطات بيع الملابس والأحذية والصناعات اليدوية والحلويات والأطعمة السورية حتى يظن نفسه أنه في سوق غير لبنانية ولكن في لبنان، هذا كله يسهم في تحول المشهد البقاعي، وتغيّر صورته الى صورة لا يعرفها سكانه وزائريه، هذا الأمر ينذر بالكثير من المخاطر، والتأقلم معه تحت شعارات مختلفة هو تأقلم “وهمي” لأنه سيغير حضارة البقاع بشكل غير مسبوق وسيخسره دوره المستقبلي في بناء لبنان.

وسط هذا الواقع المرعب وتقاعس الحكومة وأجهزتها الرقابية عن معالجة الموضوع بحسب القوانين المرعية الإجراء ، تفلت هؤلاء من الضوابط وراحوا يبتكرون طرقًا للكسب من دون مراعاة القوانين فمثلاً ابتكر بعضهم طرقاً غير شرعية للتهريب للسلع وخصوصاً البنزين الذي كانوا يهربونه على الحدود بطرق ملتوية أو في سياراتهم الخاصة التي زودوها بخزانين وثلاثة يتم ملؤها من محطات لبنان وبيعها في السوق السوداء السورية، وهذا “النهب المافيوي” أتى كله على حساب المواطن اللبناني العادي، الذي يسابقونه على لقمة عيشه من دون أن يسهموا في تحريك عجلة الاقتصاد لأنهم من أصحاب “الجمع والمنع” .

إن إنكار هذه الحقيقة من قبل بعض اللبنانيين لا يفاجئ خصوصاً هؤلاء المستفيدين الذين يتقاضون رواتب ب “الفريش دولار” من جمعيات على علاقة بالأمم المتحدة ، حبذا لو يقتنع هؤلاء أن هذه الاستفادة على حساب ” المصلحة العامة” لا تشكل جزءاً صغيراً مما يخسره لبنان في ظل وجود اللاجئين السوريين فيه، كما أنها لا تسهم بتوفير نظامً اقتصادي واجتماعي عادل بين المواطنين اللبنانيين.

هذه الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والديموغرافية التي تعد الأسوأ في تاريخ لبنان ، أثرت بشكل سلبي كبير على البقاع ، لذا لا بد من خطة حكومية عاجلة، تكون واضحة المعالم ومحددة الأهداف تعالج هذا الوضع، وتتضمن إصلاحات أساسية منها:

  • إعادة اللاجئين السوريين الى بلادهم بعد أن يكون هناك ضوء أخضر دولي، يضغط لبنان للحصول عليه، ووقف تحويلاتهم إلى لبنان.
  • إلغاء البسطات، وتخصيص أسواق خضار لامركزية في نطاق جغرافي محدد ، تراقب البلدية عمل هذه الأسواق.
  • فرض سلطة الدولة على الحدود مع سوريا بعد ترسيمها لأنها نقطة خلافية كبيرة بدأت منذ تأسيس الدولة وإعلان استقلال البلدين.

أخيرًا، تتحمل ظاهرة النزوح السوري جزءاً من مسؤولية الإنهيار الإقتصادي والمالي والإجتماعي غير المسبوق في لبنان إلا أن معالجتها لا تكون فقط بإعادة اللاجئين مع أنها خطوة أساسية وضرورية للطرفين، خصوصاً للدولة اللبنانية من أجل الحفاظ على وجودها وحضارتها، فعليها أن تتخلص بأسرع وقت ممكن من مفهوم “الدولة الفاشلة” لتستعيد مهامها المفترضة، وتضع الأسس لبناء دولة حديثة تدير أمورها بنفسها، ويترافق هذا مع انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة تنكنوقراط تقوم بإصلاح حقيقي على كافة المستويات.. فهل ستقوم الدولة اللبنانية بما عليها من واجبات قبل فوات الأوان؟!

مشاركة.

التعليقات مغلقة.