كتب الدكتور حسام شمعون مقالاً على صفحته على “فايسبوك” تطرق فيه إلى تغير أحوال لبنان من الإنتاج إلى الإفلاس.
مَقال رَقم 29 مِن حَواضِر البيت، بِعنوان: الإفلاس
كانَ إلى جانِب مُعظَم مَنازِل القُرى اللُّبنانِيَّة، وَضواحي المُدُن، وبَعض أَحيائِها، على مَدَى القرن العشرين، وقبله، مَزرَب لِلمواشي، وللحيوانات اللَّبونَة، وخَمّ لِتربِيَة الدَّجاج، وشَجرَة زيتون، وعريشَة، وغيرها، لِتموين أهل البيت بِصُورَة دائِمَة، إلى جانِب ما كان يَرِد مِن ذِمَّة التُّراب، مِن خُضار وحُبوب. مِن هُنا جاء المَثل الشَّعبي القائِل “فَلَّاح مِكفي، سُلطان مِخفي”.
والدَّجاجَة هي مَصدَر وَمَصنَع، لا بل أصغر مَصنَع في البِلاد، حَيثُ تُعطي أكثر مِن خَمسَة أضعاف وَزنها مِن البَيض الطازج، في أوج عطائِها وإنتاجها. وكان القروي يهتمُّ بِها وبِحياتها ويرعاها، مِثلَما تَرعى صيصانها، وتُدافِع عَنهُم بِشراسَة إلى أقصى الحُدود، لأنَّها عاطِفِيَّة إلى أقصَى الحُدود، طَمعاً باستِغلال انتاجها، وهي لَيسَت لَها الُقدرَة لِتسأَل عن مَصير إنتاج مَصدرها ومَصنعها، إذا لَمَعَ بِبالِها هذا السُّؤال.
وعِندَما بَدأَت ظاهِرَة تَربِيَة الدًّجاجَة المُلقّبة “بِثروة الدَّار”، تتقلَّص تَدرِيجيّاً مِن بين مَنازِل القُرى والأرياف اللُّبنانيَّة، بِسَبَب تقلُّص الإهتِمام والمُحافَظَة على هذا المَصنع الصَّغير، لأسباب عَديدَة، لَيسَت مَوضُوع هذا المَقال، اهتزَّت سَلطَنة الفلَّاح، حَيثُ كانَت علامَة مِن علامات الأزمِنَة الرَّديئة الَّتِي أنَبأت بإفلاس أهل الدَّار، وتلاشي سُلطَتِهم وسَلطَنَتهم أوّلاً، وإفلاس المَصانِع الكَبِيرة، وإغلاق مُعظمها، وتَسريح عُمَّالها ومُوظَّفيها ثانِياً، على امتِداد مَساحَة الوطن، الَّذي عَرفَ عدد غير يسير مِن أهله إفلاساً شامِلاً، على جَمِيع الأصعِدَة، مِن الإفلاس الأخلاقي، مُروراً بالإفلاس الثَّقافي، على أنواعه، والقِيم الإنسانيَّة مِثل الصَّداقة..، ثُمَّ السَّياسي إلى المالي.
وفي لُغَّتنا، كَلِمة إفلاس، مَصدرها فلس، وجمعها أَفلُس وفُلوس، وهي قطعة مَضروبَة مِن النَّحاس، كان اللُّبنانِي والعَربي يتعاملُ بِها، في الأزمِنَة الغابِرة، حَيثُ وَرَدَت كَلِمَة فلس في إنجيل لوقا، عِندَما تَحدَّث عَن فلس الأرملَة، (فصل واحد وعشرون- الآية واحد). ويُقال فُلان فَلسٌ مِن كُلِّ خَير، أي خالٍ مِن كُلِّ خَير. وفَلَّس القاضي فُلاناً، أَي حَكَمَ بإفلاسِه. وأَفلَس، أي لَم يبق لَهُ مالٌ، ويُراد بِذلِك أنَّهُ صار إلى حالةٍ، يُقال فيها عَنهُ “ليسَ مَعَهُ فلس”، فَهو مُفلِس، وجمعها مُفلِسون ومَفاليس. والفلَّاس بائِع الفُلوس، أي النُّقود النُّحاسِيَّة. وفُلوس السَّمك هي ما كان عليه مِن القِشرَة.
وَمُنذُ تِسعينات القرن العشرين، استدانَت السُّلطَة اللُّبنانيَّة مليارات الدُّولارات، نَتيجة اجتماعات إقتِصاديَّة دُولِيَّة، عُرِفَت بِباريس واحد وإثنان… لِلقِيام بِالإصلاحات الإنمائِيَّة اللَّازِمَة في لُبنان، حَيثُ ظَلَّ التَّراجُع الإنمائي الدّراماتيكي دون مَكابِح، في مُعظَم المَناطِق اللُّبنانِيَّة وأريافِها. كَما ظَلَّ نَزِيف هُجرَة اليد العامِلَة وأصحاب الكَفاءات والشَّهادات والإختِصاصات، على وتيرتِه إلى بِلاد الغرب، والخليج العربي، لا بَل زادَ وتَضاعَف. وزادَت سرقة الأموال المُخزَّنَة في المَصارِف، بِمليارات الدُّولارات، وتحوِيلها إلى مَصارِف الخارِج، وسرقة خَزينَة الأُمَّة اللُّبنانِيَّة، حيث زادَ الدَّين العام، إلى أكثر من 70 مليار دولار.
كَذلِك نُهِبَت مُدخَّرات الموظفين والعمال المعروفة “بقرشهم الأبيض ليومهم الأسود”، ولم يحافظ اللُّصوص والسَّارِقون على مَصادِر الإنتاج والدَّخل، لِيظلّوا يَسرقون، بل سحَقوا هذه المَصادِر بِسبب غبائهم الكثيف، وعَمى البَصيرَة الذي تميّزوا به، الَّذي يُذَكِّر القارىء بِعُميان البَصيرة الَّذين ساروا في شارع أريحا مع السَّيد المَسيح، ولَم يَروا ويُدرِكوا أنَّه إبن داوود، كَما رأى في بصيرته وأدرَكَ، الضَّرير الجَّالِس على حافَّة الطَّريق، الَّذي كان يُناشِد بِصَخب: “يا إبن داوود إرحمني”.
وانهارت قيمة اللِّيرة اللُّبنانيَّة الَّتي فَقدَت نَحو 95% مِن قيمتِها أواخِر العام 2019م، وتَعمَّق التَّضخُّم وغَلاء الأسعار والحاجيات، إلى أكثر من 400 %، وفُقِد الدواء.
وانسحبَ فُقدان قِيمَة اللِّيرة أيضاً، على أموال بَنك الأطفال، أي القجَّة، أو الحَصالَة، وعلى رواتِب المُوظَّفين، والمُعلِّمين، والمُتقاعِدين، وإرث الأموات.. وذَكَّى هذا الإنهيار المالي، إنهيار وتراجُع خَدمات “مَجموعَة المِيم السِّتَة” اللُّبنانيَّة وهي: المَصانِع، والمَدارِس، والمَصارِف، والمُستشفيات، والمَطار، والمَرفأ، الَّذي تَعرَّض لأعنف انفِجار، شَهِدَه العالَم بَعد الحرب العالَميَّة الثّانِيَة.
وبعدما تبيَّن الصَّنج لِذي عينين، وانكَشَفَ وأبان الأمر، وصَرَّحَ الحَقُّ عن مَحضِه، وقفَت بَعض الدُّول على حقيقة الأمر، ومِنها فرنسا، حَيثُ أنارَت الشُّبهَة، وأسفرَت الظُّلمَة، وزالَ الإرتِياب، وبرحَ الخفاء، ولاح المِنهاج، واستوى المَسلَك.
كما فَحصَت فرنسا مَع بَعض الدُّول الأُوروبيَّة عَن الأمر فَحصاً، ونقّبت عَنه تنقيباً، وأرادت ضَمّ النَّشر، وسدّ الثَّغر، وجمع الشَّتات، وتقويم المَيل، وحَسم الدَّاء، وفنَّدَت السِّياسِيَّين والمَصرِفِيِّين اللُّبنانِيِّين تفنيداً، وقّرَّعتهم تقريعاً، الَّذين سار آخرهم على خُطَى أَوَّلهم، مُنذُ تِسعينات القرن العِشرين، وشعَّبوا الأمر، فتفاقمَ الدَّاء، حَيثُ رَفضوا صَدعه، ورأبه، فكانوا كَزِندين في وعاء، وتَمادوا في غَيِّهم، وتاهوا في ضَلالَتِهم.
أمَّا فِرق الشَّعب اللُّبنانِي الطَّائِفيَّة والحِزبِيَّة، فقد أرادت الإقتِصاص مِن اللُّصوص، مِن غير طائِفَتِها وحِزبِها اقتصاصاً، وَمَثَلاً مَضرُوباً، وَعِبرَة ظاهِرَة وِعِظَة بالِغَة، لأنَّهم أُخذوا بِجُرمِهم وجِنايتهم.
كَذَلِك بِسَبَب شُعور بَعض فِرَق هَذا الشَّعب، بإفلاسِه لأدوات مُحاربَة الشُّعور بِالشَّيخوخَة، والإحباط، واليأس، وفقدان الأمل، والرَّجاء، وعَدَم تَحقيق مُعظَم أحلام العُمر، لأنَّ سبيلها غير مُعبَّد، وانحِدار الخَط البياني القاسي، لإنجازاته الَّتي عَكست إفلاس القلب، الَّذي لَم يَجِد مَعنى لإستِمرار الحياة، والأمان، ومُحاربَة التَّحدِّيات اليومِيَّة، الَّتي جَعَلَت خَطَّه البياني النِّضالي، المَعيشي الحياتِي، في انحدار قاسٍ دُون مَكابِح.
لَكِن هل تَعلَم أيُّها المُوَظَّف، والقارىء، أَنَّ القِدِّيس لُوقا، أَورَدَ في إنجيله وَصِيَّة بِصيغَة الأَمر، قابِلَة لِلتَّطبيق، وغير قابِلَة لِلأَخذ والرَّد؟ وَهِي: “اقنعوا بِمرتَّباتِكم”، (ثلاثة – أربعة عشر)، أَي لا تَطلُبوا زِيادةَ على رواتِبِكُم، ولا تلتَمِسوا الرَّشوَة، وكُونوا بَعيدِين عَن الطَّمَع…، والسَّيد المَسيح (علَيِه السَّلام)، كَفيل باستِمرار أَسباب مَعيشَتِك مِن حَيثُ لا تَعلَم. وهُو قادِر على فِرض الحل المَنشود الشَّامِل، لِهَذا الواقِع اللُّبنانِي المَرير، في الوَقت المُناسِب، الِّذي سَيكون مَوضوع مَقال لاحِق، مِن حواضِر البيت.